عيسى إيكن ساهم في خلق ألفة جمالية ووجدانية مع المتلقي

برحيل الفنان عيسى إيكن (18 فبراير 2016) عن عمر يناهز 79 سنة، تكون الساحة التشكيلية المغربية قد فقدت أحد الأسماء الفاعلة فيها، ومن أكثرها حضورا وتميزا، من خلال أعماله التي تستند إلى أشكال ورموز دقيقة مستلهمة مما هو تراثي، من دون الانسياق مع التوظيف الفلكلوري أو المنحى الساذج للمرجعيات الفنية المحلية.
منحه أسلوبه التشكيلي فرادة وخصوصية قلما تأتّيا لغيره من التشكيليين الذين يغرقون في متاهة المحاكاة أو الإفراط في التجريد لحد الإبهام، فلوحات عيسى إيكن ـ بخلاف ذلك ـ تخلق نوعا من الألفة الجمالية والوجدانية مع متلقيها، الذي يجد نفسه منجذبا إلى تفاصيلها وجزئياتها الصغيرة الملتحمة مع بعضها بعضا، بما يشكل كينونة دائرية لا منتهية.
مرت تجربته التشكيلية بثلاث مراحل أساسية، أولاها تمثلت في الاهتمام بالأشكال والرموز الموجودة في المحيط الثقافي، وابتكار رموز أخرى انطلاقا منها، وكانت في البداية ذات مقاسات صغيرة جدا ومندمجة في التركيب العام للوحة. أما المرحلة الثانية فتجلت في خروج تلك الرموز من إطارها الصغير لكي تصبح معبرة عن ذاتها، أما المرحلة الثالثة فهي ديناميكية تلك الرموز والأشكال، حيث لم تعد مقتصرة على إطار جامد خاص بها، وإنما انتقلت إلى إطار متحرك، وتندرج ضمن هذه المرحلة التجربة التي خاضها الفنان الراحل والمتمثلة في نقل الرموز والأشكال ونحتها في المجوهرات والحلي، مما فتح له آفاقا فنية جديدة.
قد يتبدى للناظر للوحات إيكن، للوهلة الأولى، أنها تضم رموزا متكررة، لكنه إذا أمعن النظر فيها كثيرا لن يجد تكرارا، بل إن الرمز يتغير عند انتقاله من لوحة إلى أخرى، وحتى داخل اللوحة الواحدة نفسها، والميزة هنا أن كل رمز يخلق رمزا آخر يتولد عنه، لدرجة أن الفنان المذكور سبق له أن أنجز لوحة تحتوي على 3600 رمز، كل واحد منها مختلف عن الآخر، مثلما كشف عن ذلك في حوار أجريناه معه في صحيفة «القدس العربي» قبل نحو عشرين سنة.
وحيث إن لوحات عيسى إيكن متناهية الدقة، فإن السؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن هو كم يستغرق إنجازها، وكم يلزمها من صبر وأناة، ولذلك أجاب أنها تتطلب وقتا طويلا يمتد إلى شهور وشهور. وأضاف قائلا: «لا يمكنني وصف لحظات إنجاز لوحات، كما لا يمكنني الإجابة على سؤال يتكرر في كل معارضي على ألسنة الزوار: ماذا تعني بهذه الرموز؟ وإن كان بإمكاني فقط الحديث عن الإطار العام للتجربة. أعمالي تتم وفق مرحلتين، في المرحلة الأولى تأتي الأشكال بصفة تلقائية، فألجأ إلى تسجيلها، وفي الثانية يتم إعطاء حياة لهذه الأشكال باستعمال الألوان وبالتركيب وبتغيير بعض الأجزاء».
أما بخصوص جدلية المحلية والعالمية، فيرى إيكن أنه «يمكن للفنان أن يسير نحو العالمية انطلاقا من أعماله المحلية، فاللوحة التجريدية تقوم على أساس الشكل واللون والتركيب العام، وهذا الإطار يستوعب كل شيء. أنا عندما أتحدث عن الذاكرة الجماعية لا أقصد ـ مثلا ـ اللجوء إلى نقل الأشكال الموجودة في منتجات الأعمال اليدوية والحرف التقليدية الشعبية وتطبيقها حرفيا على اللوحات، وإنما الأساس عندي هو الابتكار. صحيح أنني لا أستعمل الشكل واللون والتركيب مثل ما هو موجود في أوروبا، ولكن لوحاتي قد تخلق الإحساس نفسه عند الإنسان الأوروبي كما عند المغربي. وهنا، أتساءل: على أي أساس تستطيع القول إن هذه اللوحة التي أنجزت ـ على سبيل المثال ـ في فرنسا أحسن من تلك التي أنجزت في المغرب؟ ربما يختلف تلقي كلا اللوحتين. ومع ذلك، لو وضعناها في متحف كبير لقيل: هذا فن عالمي فقط، وليست العالمية هي تقليد الأعمال الغربية.

إلى جانب تجربته التشكيلية المميزة، عُرف عيسى إيكن بكونه أيضا شاعرا باللغة الفرنسية، حيث أصدر ديوانين هما: «تشققات الحجارة» و»الخريف الخؤون»، وقد أصدر الديوان الثاني بعد التجربة الصعبة التي كان مر بها أواسط التسعينيات والمتمثلة في رحيل زوجته. واللافت للانتباه أن الفنان/ الشاعر زاوج في هذا الديوان بين القصائد واللوحات التي عبر بها عن ذلك الجرح الغائر في نفسه، مترجما ثلاثة أصوات هي: الموت، الحب، الحياة.
الجانب الثالث في شخصية الفنان الراحل، يتجسد في المسرح، الذي تعامل معه عبر مستويات متعددة، فكان لمدة طويلة مسؤولا عن «المركز الوطني للأبحاث الدرامية» الذي كانت تنضوي في لوائه فرقة «المعمورة» المسرحية، حيث أُنجزتْ عدة أعمال مسرحية مع عدة فنانين، كعبد الصمد الكنفاوي وأحمد الطيب العلج والطيب الصديقي وعبد الصمد دينيا وعزيز موهوب وفاطمة الركراكي ومليكة العماري وإدريس التادلي وغيرهم ممن شارك في عدة مسرحيات محلية وعالمية. وللإشارة ففرقة «المعمورة» هي التي خلقت تقاليد مسرحية في المغرب، بتقديم مسرح عالمي وعصري. كما ساهم عيسى إيكن في الإشراف على حلقات التدريب المسرحية التي كانت تنظمها وزارة الشباب والرياضة لفائدة الجمعيات المسرحية الهاوية التي كانت تستفيد من منح سنوية ومن المشاركة في المهرجان الوطني لمسرح الهواة بعد اجتياز الإقصائيات المحلية والجهوية. ومعلوم أن هذه التظاهرة ساهمت في إبراز عدة أسماء مسرحية لها وزنها على الصعيد المحلي والعربي.

 

الطاهر الطويل

ذات صلة